السؤال:
من المعلوم أن أهل السنة و الجماعة يثبتون صفات الرب سبحانه من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل . وهم عندما يثبتون يؤولون الكيفية ويعرفون المعنى مستشهدين بمقولة الإمام مالك المشهورة " الاستواء معلوم والكيف مجهول" . والذي أشكل علي أننا إن قلنا مثل هذا في كل الصفات فقد يقال لنا: فما معنى ضحك الله ؟ أو ما معنى وجه الله ؟ أو ما معنى رحمة الله ؟ أو ما معنى ساق الله ؟ إلى غير ذلك من الصفات ألا يلزمنا أن نعرف معناها اللائق بالله حتى لا نكون مفوضة ؟ والمشكلة أن العرب إذا فسروا معناها فإنما يفسرونها بمقتضيات ما يرونه من المخلوقات أفيدونا فلقد احترنا في هذا ، وقد أشكل به علينا بعض المبتدعة من الأشاعرة .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
أهل السنة والجماعة لا يؤولون الكيفية ، وإنما يفوضون علمها إلى الله ، فيؤمنون بصفات الرب تعالى ، ويؤمنون بمعانيها ، ويفوضون كيفيتها إليه سبحانه .
قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما من السلف : " إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه ، وإن علمنا تفسيره ومعناه " انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (1 /115) .
وقال أبو الطيب والد أبي حفص بن شاهين رحمه الله : " حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث نزول الرب ، فالنزول كيف هو ؟ يبقى فوقه علو ؟ فقال : النزول معقول والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " .
قال الذهبي : " صدق فقيه بغداد وعالمها في زمانه ؛ إذ السؤال عن النزول ما هو عيّ ، لأنه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة ، وإلا فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع ، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء ، فالصفة تابعة للموصوف ، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر" انتهى من "العلو للعلي الغفار" (ص 213-214).
وقال أبو بكر الإسماعيلي : " استوى على العرش بلا كيف ؛ فإنه انتهى إلى أنه استوى على العرش ، ولم يذكر كيف كان استواؤه " انتهى من "معارج القبول" (1 /198) .
فعقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الرب تعالى أنهم يثبتونها ، ويثبتون معانيها التي تدلُّ عليها على حقيقتها ووضعها اللغوي ، ويفوضون العلم بالكيفيات والماهيات ، مع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين ؛ إذ إنه سبحانه ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ولا في صفاته .
ثانيا :
قول الأخ السائل إننا إذا قلنا بذلك فقد يقال لنا : فما معنى ضحك الله ؟ أو ما معنى وجه الله ؟
فنقول : معنى ضحك الله إثبات صفة الضحك لله تعالى حقيقة لا مجازا ، على الوجه الذي يليق به سبحانه ، دون تمثيل أو تكييف ، فنثبت الصفة ونثبت المعنى ونفوض الكيفية كما تقدم . وهكذا في كل صفة .
قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله :
" فنحن نثبت الصفة ، وننفي عنها التشبيه ، فالتشبيه يختص بالمخلوقين ، ونقول : إن الله تعالى أثبتها لنفسه ، ونحن نثبتها دون أن نبالغ في التمثيل ، أو نقول عنها ما ليس بحق ، ومعلوم أن صفة المخلوق تناسبه ؛ فالضحك للمخلوق هو قهقهةٌ وصوت يكون عن شيء يعجبه أو يفرحه أو يسره ، ولكن الرب يضحك كما يشاء ، بصفة لا نعلم كيفيتها" انتهى من "فتاوى الشيخ ابن جبرين" (63 /96) .
ثالثا :
قول السائل : ألا يلزمنا أن نعرف معناها اللائق بالله حتى لا نكون مفوضة ؟
تقدم في إجابة السؤال رقم (138920) معنى التفويض في أسماء الله وصفاته ، وخلاصة ما ذكر أن التفويض يكون على معنيين :
الأول : إثبات اللفظ ومعناه الذي يدل عليه ، ثم تفويض علم كيفيته إلى الله . وهذا المعنى صحيح ، وهو مذهب أهل السنة .
الثاني : إثبات اللفظ من غير معرفة معناه . وهذا المعنى باطل .
وفرق بين معرفة المعنى وإثبات حقيقة الصفة ، وبين معرفة كيفيتها .
قال علماء اللجنة :
" الواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه من اليدين والقدمين والأصابع وغيرها من الصفات الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بالله سبحانه ، من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل ، وهي حقيقة لا مجاز " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (2 /376) .
فعلينا أن نفرق بين المعنى الذي يجب علينا أن نؤمن به ونثبته ، وبين الكيفية التي لا يمكن أن نعرفها ؛ لأن ربنا عز وجل ليس كمثله شيء .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" وَقَدْ أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ الخطابي ، مَذْهَبَ السَّلَفِ : أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي " الصِّفَاتِ " فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي " الذَّاتِ " يُحْتَذَى حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ ؛ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ ؛ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ ، فَنَقُولُ إنَّ لَهُ يَدًا وَسَمْعًا وَلَا نَقُولُ إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَمَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ ... وهَذِهِ الصِّفَاتِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ نِسْبَتُهَا إلَى ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ ، كَنِسْبَةِ صِفَاتِ كُلِّ شَيْءٍ إلَى ذَاتِهِ ، فَيُعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلْمَوْصُوفِ ، وَلَهَا خَصَائِصُ ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ ... وَكَذَلِكَ " فِعْلُهُ " نَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ هُوَ إبْدَاعُ الْكَائِنَاتِ مِنْ الْعَدَمِ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَيِّفُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا يُشْبِهُ أَفْعَالَنَا ، إذْ نَحْنُ لَا نَفْعَلُ إلَّا لِحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ ، وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ . وَكَذَلِكَ " الذَّاتُ " تُعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ وَلَا يُدْرِكُ لَهَا كَيْفِيَّةً فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ .
فَالْمُؤْمِنُ يَعْلَمُ أَحْكَامَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَآثَارَهَا ، وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ ، فَيعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ، وَأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ خَالِقِهِمْ فِي الْجَنَّةِ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ لَذَّةً يَنْغَمِرُ فِي جَانِبِهَا جَمِيعُ اللَّذَّاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . كَمَا يعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا وَمَعْبُودًا وَلَا يَعْلَمُ كُنْهَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ غَايَةُ عِلْمِ الْخَلْقِ هَكَذَا : يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ وَلَا يُحِيطُونَ بِكُنْهِهِ وَعِلْمُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (6 /355-358) .
رابعا :
قول السائل " المشكلة أن العرب إذا فسروا معناها فإنما يفسرونها بمقتضيات ما يرونه من المخلوقات "
فنقول : العرب إذا فسروا معنى صفات المخلوقين ، فسروها بما يرون ويعلمون ويدركون منها ، فكيف يمكن التعرض لكيفية صفات الرب وهو سبحانه ليس كمثله شيء ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علما ؟!
ولا ينجو من شبه المبتدعة إلا من اتبع طريق السلف ، وسلك مسلكهم ، واقتفى آثارهم .
راجع للاستزادة جواب السؤال رقم (145804) .
والله تعالى أعلم .