وقفت بجانب المنزل، أتأمل العراك المستمرّ في ساحة المدينة،
وأسمع جلبة باعة الشوارع، ومناداة كل منهم عن طيب ما لديه من
السّلع والمآكل.
اقترب مني صبيّ ابن خمس، يرتدي أطمارالبالية ويحمل
على ذراعيه طبقا عليه طاقات من الزهر، وبصوت ضعيف يخفضه
الذل الموروث والانكسار الأليم، قال: "أتشتري زهرا يا سيدي؟"،
فنظرت إلى وجهه الصغير المصفّر،وتأملت بعينيه المكحولتين بخيالات
التعاسة والفقر، وفمه المفتوح قليلا كأنه جرح عميق في صدر متوجّع،
وذراعيه العاريتين النحيلتين ، وقامته الصغيرة المهزولة المنحنية على
طبق الأزهار، كأنها غصن من الورد الأصفر الذابل بين الأعشاب النّضرة.
تأملت بكل هذه الأشياء بلمحة، مـُظهرا شفقتي بابتسامات هي أمر من الدموع،
تلك الابتسامات التي تنشقّ من أعماق قلوبنا وتظهر على شفاهنا. ولو تركناها
وشأنها لتصاعدت وانسكبت من مآقينا.
ثم ابتعت بعض أزهاره وبُغيتي ابتياع محادثته لأنني شعرت بان من
وراء نظراته المحزنة، قلبا صغيرا ينطوي على فصل من مأساة الفقير الدائم
تمثيلها على ملعب الأيام، وقلّ من يهتم بمشاهدتها لأنها موجعة، ولما خاطبته
بكلمات لطيفة استأمن واستأنس، ونظر إليّ مستغربا لأنه مثل أترابه الفقراء
لم يتعوّد غير خشن الكلام من أولئك الذين ينظرون إلى صبية الأزقة كأشياء
قذرة، لا شأن لها، وليس لنفوس صغيرة مجروحة بأسهم الدّهر.
( جبران خليل جبران)