عندما ذهبت لزيارة صديقتي ساندي قصت علي قصة غريبة مؤثرة قالت:
" في إحدى ليالي الشتاء المثلجة الباردة كنت عائدة من الدكان حيث التقيت بفتاة في مثل عمري تلبس أطمار البالية, حذائها قديم وممزق وملامح وجهها تخفي أحزانا وآلام. كانت تبيع الخضار وسط العواصف والثلوج المتراكمة, دنوت منها وسألتها بقلب مليء بالشفقة والأسى على هذه المسكينة: من أنت أيتها الفتاة؟ ولماذا تبيعين الخضار في هذا البرد القارس؟ وما إن أكملت كلامي حتى أغمي عليها من شدة التعب والإعياء.
مرت سنتين على رحيلها وقررت أن اذهب أنا أيضا إلى باريس لأواصل تعليمي وكنت على أمل أن التقي برنان. وعندما وصلت إلى هناك ونزلت من الحافلة رأيت من بعيد فتاة جميلة ومرتبة تلبس ملابسا مدرسية وكانت تبدو في غاية السعادة واللطف, وسرعان ما رأتني حتى اندفعت نحوي وضمتني بشدة وكم كانت دهشتي كبيرة عندما أخبرتني أنها صديقتي القديمة رنان, نعم هذه الفتاة الأنيقة هي نفسها رنان الفقيرة البائسة . فوجئت كثيرا وقلت لها: أأنت رنان فعلا؟ كيف أصبحت جميلة وأنيقة هكذا؟ فأجابت اتبعيني إلى منزلنا وسأحدثك بكل شيء, فقد كنت بانتظارك. وعندما وصلنا إلى منزلها دهشت كثيرا لرؤية بيت جميل بجمال القصر كانت تحيطه الأزهار الملونة الرائعة كألوان قوس قزح وكان مرتبا ونظيفا جدا من الداخل, لقد أحببته كثيرا, وكانت دهشتي الكبرى عندما رأيت أمها الرائعة الرقيقة وأخوها الوسيم أيضا, لقد رحبا بي أحر الترحيب, عاملاني بمنتهى اللطف ودعوني لتناول الشاي معهم . سررت كثيرا لدرجة إنني ظننت نفسي في حلم .
وفي صباح اليوم التالي استعدت رنان للرحيل , ودعتنا جميعا ثم ضمتني وأجهشت بالبكاء, لم استطع أن أتمالك نفسي عندما فكرت انه من الممكن ألا نراها بعد اليوم أبدا فأخذت العبرات تتساقط من عيني. ثم قامت بإعطائي هدية صغيرة عبارة عن وشاح وردي رائع صنعته بنفسها ورسالة كتب فيها: "عزيزتي ساندي... أود أن أشكركم جميعا على كل ما قدمتموه لي واعدك أنني عندما أجد أمي وأخي سنأتي لزيارتكم فورا بعد أن أحدثهما عنكم وعن طيبة قلبك لذا أريد أن أقول لك شكرا جزيلا والى اللقاء... احبك من كل قلبي... صديقتك المخلصة رنان."
وعندما جلسنا حول المائدة لتناول طعام العشاء, تنهدت رنان وقالت: " ساندي علي أن أودعكم قريبا, لقد أصبحت كبيرة وصار من واجبي أن اذهب للبحث عن أمي وأخي فانا لم أتلقى منهما أية رسائل منذ فترة كما تعلمين." تفاجأت وقلت لها : بهذه السرعة! رنان أرجوك ابقي معنا, لا تذهبي! لأنني اعتدت عليك وسأفتقدك كثيرا... فقاطعتني أمي قائلة: ساندي! لا تمنعيها دعيها تذهب, فكما سررت هذا اليوم بلقاء والدك بعد انتظار طويل كذلك رنان مشتاقة لرؤية أمها وأخيها !
تأثرت بكلامها كثيرا وأشفقت عليها من كل قلبي وطلبت من أمي أن ندعها تسكن معنا إلى أن تعود أمها فوافقت أمي بدون تردد, أما رنان فقد ترددت قليلا ولكنها وافقت في النهاية وقالت: شكرا جزيلا لك, لا اعرف كيف سأتمكن من مكافئتك على هذه المحبة والحنان اللذان منحتماني.
ومضت الأيام وقد مرت خمس سنين كاملة على مكوث رنان في منزلنا ولم تسمع طوال هذه المدة أية أخبار عن والدتها وبدأنا نستعد لاستقبال والدي العائد من عمله الطويل الذي استمر سبع سنوات في باريس, وفي المساء وبعد انتظار طويل سمعنا صوتا مألوفا حنونا ينادي: ماري ساندي أين انتم يا أعزائي؟ عندها اندفعت مسرعة للقاء والدي الحبيب الذي كنت انتظره على أحر من الجمر.
عندها أسرعت وحملتها إلى البيت, وضعتها على سريري ثم طلبت من أمي أن تحضر لها طبق حساء ساخن وسهرت بجوارها طوال الليل. وفي صباح اليوم التالي استيقظت الفتاة وكنت جالسة بقربها وأنا في غاية القلق عليها ثم أطعمناها ووفرنا لها الراحة التامة, وأظنها شعرت بهذا وقدرت كل ما فعلناه لأجلها فقد كانت تشكرنا دائما وبعيون دامعة وقالت بأنها لم تشعر منذ وفاة والدها أن أحدا يعتني ويهتم بها هكذا. وعندما تحسنت صحتها سألتها عن اسمها وطلبت منها أن تقص علينا قصتها كاملة ولماذا كانت تبيع الخضار في ذاك اليوم المثلج؟
فقالت أن اسمها رنان وبدأت بسرد قصتها المؤثرة: " لقد ولدت في منزل قديم وترعرعت مع عائلة فقيرة مكونة من أربعة أنفار: أنا, أبي, أمي وأخي الذي يكبرني بخمس سنوات. لقد قضينا معا أوقاتا سعيدة رغم فقرنا الشديد إلى أن توفي والدي اثر سكتة قلبية قبل ثلاث سنوات وأخذت حالتنا المادية تزداد سوءا يوما بعد يوم حتى إننا لم نعد نملك قطعة خبز واحدة نقتات بها, عندها قررا أخي وأمي السفر للبحث عن العمل ولم يكن بمقدورهما أن يأخذاني معهما لذا فقد أودعتني أمي عند جارتنا القاسية وأخذت تدفع إليها كل ما تحصل عليه من المال ولم تعلم شيئا عن حياتي الصعبة التي قضيتها مع تلك المرأة المتعجرفة, لقد عانيت مشقة العمل واحتمال الجوع طوال هاتين السنتين. ففي كل يوم كنت احرم من تناول الفطور حتى أقوم بجميع الأعمال المنزلية كغسل الملابس , ترتيب المنزل, غسل الأواني, إشعال الموقد وطهي الطعام وغيرها من الأعمال الشاقة. وفي المساء علي أن أبيع سلة خضار كبيرة في أزقة المدينة حتى أتمكن من تناول طعام العشاء المتبقي في القدر. وهكذا قضيت هاتين السنتين في العمل الشاق وأنا أدعو من الله دائما أن يعينني ويخلصني من حياتي هذه."
وكنا ننتظر أخي ليعود من عمله فقد أخبرتني أمي انه يعمل مع مزارع عجوز في البلدة المجاورة وهو يعود لباريس مرة في الشهر لذا فقد كتبنا له عنواننا.
وعندما جلسنا حول المائدة قالت رنان: عزيزتي ساندي أولا أريد أن أقول لك أهلا وسهلا بك في بيتك وثانيا أريد أن أخبرك بكل ما جرى معي منذ وصولي إلى هنا, عندما وصلت إلى هذه المدينة الواسعة شاهدت امرأة عجوز تحمل أكياسا كبيرة فساعدتها بإيصال الأكياس إلى البيت وأخبرتها أنني ابحث عن أمي وأخي فأبقتني عندها مقابل عملي معها في بيع التفاح ولأنها كانت تعيش وحيدة. كنت اعمل معها من الصباح حتى منتصف النهار وبعدها كنت اذهب وابحث عن والدتي في أرجاء المدينة, ومر أسبوعان وأنا على هذا الحال حتى بدأت اشعر باليأس في العثور عليهما. وفي احد الأيام الباردة كنت عائدة إلى المنزل في ساعة متأخرة بعد بحث طويل عندما شاهدت امرأة مسكينة تطرق أبواب المنازل والمحلات للبحث عن عمل دون جدوى, كان الجميع يطردها ويسخر منها, أشفقت عليها كثيرا وتصدقت عليها بكل ما معي من مال ودعوتها إلى منزل العجوز فشكرتني من أعماق قلبها, ونحن في المنزل وعندما قصت علينا قصتها كاملة وكيف تشردت وأصبحت في هذا الوضع المزري فوجئت كثيرا فقد كانت قصتها مطابقة تماما لقصتي مع أمي وأخي وعندما سألتها عن اسمها تاكدت أن هذه المسكينة هي أمي فعلا عندها اندفعت إليها وقد ضمتني إلى صدرها وأخذت دموع الفرح تتساقط من عينينا. ثم أقمنا في منزل العجوز فترة من الزمن نساعدها على أعمال المنزل.
وبعد فترة وجيزة عاد أخي وكم كانت سعادتنا كبيرة عندما التقينا مجددا والأسعد من هذا انه عاد ومعه كرة مضيئة لامعة واخبرنا انه قد أنهى عمله مع ذلك المزارع الطيب, وقد أهداه مقابل وفائه وإخلاصه هذه الكرة وقال بأنها كرة سحرية حيث انك عندما تتمنين أمنية وتطلبين من الكرة أن تحققها لك فإنها ستتحقق وهكذا أخذنا نتمنى أمنية تلو الأخرى وقد تحققت جميعها فقد حصلنا على بيت رائع وحديقة وملابس وأثاث وكل شيء, ولكني لم أنسى معروفكم أبدا فقد اتصلت بأمك وأخبرتها أننا سنأتي لزيارتكم ولكنها قالت لي انك قادمة إلى هنا لإكمال الدراسة لذا قررت أن أفاجأك وطلبت منها ألا تخبرك بهذا والآن أريدك أن تتمني ما شئت."
فتمنيت أن نحصل أنا وعائلتي على بيت متواضع في باريس بجانب منزل رنان وان نعيش معا بسعادة وأمان وسرعان ما تحققت أمنيتي وعشنا جميعا بسعادة وهناء.
إن قصتي هذه عبارة عن رسالة.
نعم, رسالة لكل اللذين يواجهون المصاعب في حياتهم,
لكل الأيتام اللذين فقدوا أبائهم أو أمهاتهم,
إني انصحهم جميعا أن يصبروا فان الصبر مفتاح الفرج
وأبشرهم انهم إذا التزموا بالصبر ستفتح لهم السعادة أبوابها
وأنهم إذا واجهوا المصاعب وهم صغارا ربما سينعمون بالسعادة في وقت لاحق فان السعادة موجودة دائما وفي كل مكان,