أصيب رجل ثري بمرض عضال ، وتردد على مشافي كثيرة في بلدان مختلفة ، من بلاد العالم ، وفي كل مرة لا يرى فائدة تُذكر ، بل إنه يحس أن الأمر يستفحل مع الأيام
ويحدث أن يقال له بملء الفم :
بحسابات الطب التي نملكها ، فإنه لا أمل في شفائك
، ولقد أصبحت أيامك في دنيا الناس معدودة ، لا تتعدى الشهرين أو الثلاثة ،
فبقاؤك بين أهلك وأحبائك خير لك ..
وجحظت عينا الرجل ، وارتعشت كل خلية فيه ، وانتصبت كل شعرة في جسده تنتفض مذعورة ،
ولما أيقن بما أخبروه ، عاد إلى بلده منهاراً محطماً ، يحمل نفسه في جهد ،
وفي رأسه تثور عشرات الآلاف من الخواطر والأفكار والأسئلة ،
ولأن الأمر جدّ ولا مجال للمزح فيه ، فقد بقي يخبط يداً بيد ، ويضرب أخماساً في أسداس ،
ثم لمعت في رأسه فكرة ، فرح لها كل الفرح ،
وما إن وضع عصى الترحال في بيته ، حتى بادر يستدعي محاميه الخاص إلى مكتبه ، وأغلق في إحكام الباب من ورائه ، ثم شرع يملي عليه وصيته العجيبة الغريبة :
تبرعات سخية لأطفال أفريقيا ، ومثلها لأطفال فلسطين ،
ومشاريع خيرية في هذا البلد وذاك ،وصدقات ،
وزكوات ، وملايين يذكرها ويوزعها ،
والمحامي يكتب في ذهول وعجب ودهشة ،
وكلما حاول أن يتكلم ، زجره صاحبه قائلاً :
لقد أيقنت أنني مودّع هذه الدنيا ، وأريد أن أغتسل من ذنوبي وما أكثرها ..
ثم شرع يقسّم بقية ميراثه على ورثته ..!
كل ذلك على الورق ، ولذا طلب من محاميه أن لا ينفذ شيئاً من هذا إلاّ بعد موته
ومن يومها انقلبت حياة الرجل رأسا على عقب ،
لم تعرف رجلاه ، منذ ذلك اليوم ، سوى الطريق إلى المسجد ، وأصابعه لا تزال تدير مسبحته الطويلة ، على مدار الأنفاس ،
حتى كلامه ، أصبح معدوداً محسوباً موزوناً ، لا يدور لسانه إلاّ بذكر أو تذكير
أو نصح أو إرشاد ووعظ ونحو ذلك ..
وكلما حاول أهله وذووه أن يثنوه ، ازداد إصراراً ، ومع إصراره إزداد شحوباً ..
وتمضي الأيام والرجل يكاد يكون من العُبّاد القلائل في مدينته ،
كان أول الداخلين إلى المسجد ، وآخر الخارجين منه ، كثير الاعتكاف ، غزير
الدمعة .. ومع كل يوم يموت بعضه ، ومع نهاية كل ليلة ، يكون قد انتصب فزعاً في جوف الظلام يبكي وينوح على نفسه ..
ويمرّ الشهر ووراءه الشهر ، وفي الشهر الثالث
يتضح لك أن الرجل قد أصبح من أبناء الآخرة .!!
ولما انقضى الشهر بكله ، ثم تتابعت أيام من الشهر التالي ، ورأى أنه لا يزال في
كامل عافيته ، برقت عيناه ، وانعقد لسانه ، وفغر فاه ،
وأشرق أمل جديد في صدره ، وظل يترقب الأيام الجديدة ، ومضت أسابيع ، فإذا هو يصيح لاعناً الطب والأطباء ، وسارع يخلع ثياب الزهد والعبادة ،
ودعا صحبته القديمة _ التي كان قد طلّقها _
وقبل ذلك كان قد دعا محاميه ، ومزّق تلك الوصية وهو يقهقه ساخراً ولاعناً ..
وقرر أن يعوّض كل تلك الأيام بسهرة لم يسهر مثلها إنسان ..!
واجتمع لفيف من صعاليك الأرض ، ليس لهم همّ إلاّ بطونهم وشهواتهم ،
وكانت ليلة أشبه ما تكون بليالي ألف ليلة وليلة المسطرة في الكتب ..
وعلى المائدة الكبيرة ، ووسط روائح الخمور وعطور الغانيات و..و..
يُقبل الرجل يأكل بشراهة وفي نهم ، غير أنه لم يكد يمضغ لقيمات حتى خرّ صريعاً ميتاً وسط هذه الزينات ، وهذا الصخب والضجيج ..!
- - -
يا لله …. ! ماذا تفعل الحماقة بأصحابها ...!
لقد كان - فيما يبدو - على باب الجنة ليس بينه وبينها إلاّ ساعات ،
ولكن الشيطان أبى إلاّ أن يحرفه عن الطريق عند آخر محطة ...!
نسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع المسلمين والمسلمات ..
- - -
والفكرة التي امتلأت بها نفسي من هذه القصة كلها هي :
كيف أنّ هذا الرجل ، قد انقلبت حياته كلها ، حين أخبره طبيب( مخلوق ) بأنه على وشك أن يموت ..
ونحن يُخبرنا الخالق عز وجل في محكم آياته ،
أننا على وشك أن نغادر هذه الحياة الدنيا ، في أية لحظة ،
ثم نحن لا نتأثر أبداً .!؟
أتُرانا لا نؤمن بالله وبما أنزل من كتاب _ وإن كنا ندّعي ذلك _
أم أنها مجرد غفلة بلغت بنا حد الحماقة .؟
كلّ ابنِ أُنثى وإن طالتْ سـلامتهُ ***** يوماً على آلةٍ حــدباء محمــولُ