بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء ومنزل ترح لا منزل فرح :
أيها الأخوة المؤمنون: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سئل مرة: أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟ فقال: لن تُمكّن قبل أن تبتلى.
فهذه الحياة الدنيا مظنة ابتلاء، وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
[ سورة المؤمنون]
الأمور لا تجري في الدنيا على ما تشتهي، لأن الله سبحانه وتعالى جعلك في الدنيا كي يمتحنك.
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وهُوَ العَزيزُ الغَفورُ ﴾
[ سورة الملك]
إذاً أنت ممتحن، ممتحن في صحتك، ممتحن في زواجك، ممتحن في أولادك، ممتحن في جيرانك، ممتحن في كسب مالك، وما من مسلم على وجه الأرض إلا وعنده مواد امتحانية، فما وهبك الله إياه هو مواد امتحانك، وما زواه عنك هو مواد امتحانك، فقد تمتحن بالقوة إذا كنت قوياً، وقد تمتحن بالمرض إذا كنت مريضاً، فعلينا أن نوطن أنفسنا أن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي.
الأمور لا تجري في الدنيا كما يشتهي الإنسان لأن الدنيا دار امتحان :
قد ينجح الإنسان في امتحان الرخاء ولا ينجح في امتحان الشدة، والإنسان حينما تزوي عنه الدنيا، وحينما يضعف، وحينما يبتلى، قد ينقله هذا الابتلاء إلى حدّ الهوان، وحينما يقوى ويغنى قد تنقله القوة والغنى إلى حدّ الطغيان، الإنسان حينما يرى أنه مستغنٍ عن الله بوهمه طبعاً فيطغى:
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى*أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
[ سورة العلق]
أن رأى نفسه مستغنياً عن الله، مرة إنسان قال: الدراهم مراهم تحل بها كل قضية، فدخل المنفردة ثلاثة و ستين يوماً، وفي المنفردة لا يمكن أن تحل هذه المشكلة بالمال، إذاً حينما تؤمن أن هذه الدنيا دار ابتلاء تعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمتحنك، والله عز وجل حينما يقول:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾
[سورة الفجر الآية: 15]
يقول هذا الإنسان وقد يكون مخطئاً:
﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
[سورة الفجر]
يتوهم الإنسان أن الغنى إكرام، وأن القوة إكرام، وأن الوسامة إكرام، وأن الذكاء إكرام، وقد يتوهم أيضاً أن الفقر والضعف والمرض ابتلاء وإهانة، فجاء الجواب الإلهي رادعاً: " كَلَّا " كلا أداة ردع وليست أداة نفي فقط، " كَلَّا " أي يا عبادي ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً؛ عطائي ابتلاء وحرماني دواء.
على الإنسان أن يراجع نفسه إذا جاءت الأمور على غير ما يريد :
لذلك الآن موقف المؤمن من مصائب الدنيا يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لِيَسْتَرْجِعْ أحَدُكُمْ فِي كُلِّ شَيْء ))
[رواه ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه]
أي ليراجع نفسه، يسأل أين الخلل؟ أين الذنب؟ أين الخطأ؟ أين التقصير؟ أين المخالفة؟
(( لِيَسْتَرْجِعْ أحَدُكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ فإنَّها مِنَ المَصَائِبِ))
[رواه ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه]
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يغفر الله أكثر ))
[ رواه ابن عساكر في تاريخه عن البراء رضي الله عنه ]
أنت لا تتهم الآخرين إن ابتلاهم الله بشيء بالتقصير فهذا سوء أدب مع الله، لكن بالغ باتهام نفسك إذا جاءت الأمور على غير ما تريد، بالغ، الله غني عن تعذيبنا.
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾
[ سورة النساء الآية: 147 ]
(( ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يغفر الله أكثر ))
[ رواه ابن عساكر في تاريخه عن البراء رضي الله عنه ]
﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾
[سورة الشورى ]
من يقع في مصيبة عليه أن يسأل الله أن يهديه إلى سببها :
(( لِيَسْتَرْجِعْ أحَدُكُمْ فِي كُلِّ شَيْء ))
[رواه ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه]
ليرجع إلى الله، ماذا فعلت؟ لماذا حلّ بي ما حلّ بي؟ وحينما تسأل الله أن يهديك إلى سبب هذه المصيبة فالله يهديك، قال تعالى:
﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾
[ سورة التغابن الآية: 11]
جاءت هذه الآية عقب آية المصيبة، من يؤمن بالله أن الله هو الفعال وحده، كيف سمح لزيد أن يصل إليه؟ أو أن يسيطر عليه؟ أو أن يناله بأذى؟ سمح الله له، لماذا سمح الله له؟ لعلة عندي، هذا هو التفكير المنطقي "لِيَسْتَرْجِعْ أحَدُكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ، فإنَّها مِنَ المَصَائِبِ"، الشسع رباط الحذاء، أي الشريط، من انقطع رباط حذائه فهناك مشكلة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا راعه شيء- بالمناسبة النبي بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، هو بشر وتجري عليه كل خصائص البشر، وانتصر على بشريته فرفعه الله عز وجل- هو يخاف كما نخاف، ويرجو كما نرجو، ويهتم كما نهتم، ويدعو كما ندعو، كان عليه الصلاة والسلام إذا راعه شيء قال:
((هُوَ اللَّهُ، اللَّهُ رَبِّي لا شَرِيكَ لَهُ ))
[ رواه النسائي عن ثوبان ]
أي هذه المصيبة جاءتني من ربي، وليس من جهة أخرى لأنه لا شريك له، هذه المصيبة جاءتني من ربي، وكلمة رب يعني المربي، كلمة رب تذكر بالأم، قد تمنع الطعام عن ابنها، الأم الرحيمة العالمة قد تحرم ابنها أطيب الطعام إذا كان يؤدي به إلى مرض وبيل.
((إنَّ اللَّهَ لَيَحْمِيَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ))
[الحاكم عن أبي سعيد الخدري]
وفي رواية ثانية:
((إن الله عز و جل يحمي عبده المؤمن كما يحمي الراعي الشقيق غنمه من مراتع الهلكة ))
[ شعب الإيمان عن حذيفة ]
من جاء أمره على خلاف ما يشتهي فليتهم نفسه :
إذاً حينما قال الله عز وجل:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾
[ سورة محمد الآية: 19 ]
الأمر بيد الله، هو الذي يعطي، هو الذي يأخذ، هو الذي يرفع، هو الذي يخفض، هو الذي يعز، هو الذي يذل، ما بعد هذه الآية؟
﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾
[ سورة محمد الآية: 19 ]
إن جاءت الأمور على غير ما تريد استغفر لذنبك، الأمر بيد الله والله عز وجل عادل.
ملخص هذا الكلام كله إن جاء الأمر على خلاف ما تشتهي اتهم نفسك:
((يا عِبادي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُـِمْ كانُوا على أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ ذلكَ في مُلْكي شَيْئاً؛ يا عِبادِي ! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كانُوا في صَعيدٍ وَاحدٍ فَسألُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسانٍ مِنْهُمْ ما سألَ لَمْ يَنْقُصْ ذلكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً إِلاَّ كما يَنْقُصُ البَحْرُ أنْ يُغْمَسَ المِخْيَطُ فِيه غَمْسةً وَاحدَةً ؛ يا عِبادي ! إنَّما هِيَ أعْمالُكُمْ أحْفَظُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))
[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]
من ازداد عقله ازداد خوفه من الله عز وجل :
والنبي عليه الصلاة والسلام يخاف:
(( رأس الحكمة مخافة الله ))
[ رواه البيهقي عن عبد الله بن مسعود]
وكلما ازداد عقلك ازداد خوفك، وكلما ضعف عقلك وضعف إيمانك قلّ خوفك.
(( أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون))
[ رواه ابن السني عن الوليد بن الوليد رضي الله عنه]
لابدّ من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيم لله ومحبة له وخوف منه :
قد يأتي غضب الله فجأة، ولله عز وجل سياسة مع عبادة، قد يرخي لهم الحبل فيأكلون، ويشربون، ويتمتعون، ويصخبون، ويضحكون، ويتنزهون، ويتكبرون، ويتغطرسون، وفي ثانية واحدة يشد الحبل فإذا هذا الإنسان في قبضة الله، قد يأتي مرض عضال لا تنام الليل، سمعت البارحة عن إنسان صياحه أقلق كل من في البناء، آلام لا تحتمل، وكان من ألمع الشخصيات، جاءه الورم الخبيث في أماكن حساسة، كل المسكنات لا تجدي، الجيران لا ينامون من صياحه كل يوم.
((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن جميع سخطك ))
[أخرجه مسلم من حديث ابن عمر ]
ولك العتبى حتى ترضى، عند الله أدوية تدع الحليم حيراناً، هذا يسمونه المؤيد القانوني.
سيدنا موسى قال: يا رب تعلم إني أحبك وأحب من يحبك فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي، ذكرهم بآلائي كي يعظموني، القرآن الكريم يقول عن هذا الكافر:
﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾
[ سورة الحاقة]
التركيز على العظيم، معظم أهل الأرض يؤمنون بالله بما فيهم إبليس، لكن إبليس ما آمن بالله العظيم، وعامة المسلمين ما آمنوا بالله العظيم، ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني، فلا بد من تعظيم وخوف وحب، فإذا طغى الحب على الخوف تفلت الإنسان، وإذا طغى الخوف على الحب يئس الإنسان، وإذا ضعف التعظيم عصى الإنسان، بضعف التعظيم يعصي، وبضعف الخوف يطغى، وبضعف الحب ييئس، فلا بد من مشاعر متوازنة في قلب المؤمن.
ما من مصيبة تصيب الإنسان إلا هي دفع إلى باب الله عز وجل :
الحقيقة محور هذا الدرس أن تربط جميع المصائب بالله عز وجل، أما الاتجاه الشركي فلا، هذا الزلزال حركة باطنية للقشرة الأرضية، و الله عز وجل لا علاقة له، تقريباً شح الأمطار تبدل خطوط المطر، تتبدل في الأرض، فالإنسان الكافر يميل إلى تفسير ما يجري تفسيراً شركياً أرضياً، النبي الكريم علمنا أن نربط كل المصائب بالله عز وجل كي نتوب إليه، والله عز وجل قادر دائماً أن يدفعنا إلى بابه دفعاً عن طريق المصائب، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ))
[ رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة]
وإذا دخلت إلى مسجد - والله لا أبالغ- ترى جمعاً غفيراً فيه، تأكد أن تسعين بالمئة من هؤلاء دخلوا بيت الله عقب معالجة لطيفة من الله، الإنسان من دون معالجة إلهية يطغى.
إنسان صالح قال لي: بالسبعينات كان هناك رواج اقتصادي يفوق حدّ الخيال، وعنده مؤسسة، وكانت أرباحه طائلة، قال لي: وضعت في جيبي خمسمئة ألف، وكان الدولار بثلاثة وثمانين ليرة، وتوجهت إلى بلاد بعيدة، هذه عادة ثانية كي أستمتع، من دون أن يأخذ معه زوجته- طبعاً مفهوم- وصل إلى هناك شعر بآلام في ظهره دخل إلى المستشفى قيل له: ورم خبيث بالعمود الفقري، قطع زيارته وعاد إلى بلده من مسجد إلى مسجد، ثم تبين أنه ليس معه ورم، لكنه الله أرجعه.
فالله عز وجل ما من مصيبة تصيب الإنسان إلا هي دفع إلى باب الله، إن رأيت إنساناً ملتزماً فلأن الله عالجه معالجة من عند حكيم عليم.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: شكوت إلى رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرقاُ أصابني ـ قبل قليل " شسع النعل إذا انقطع " الآن: " شكوت إلى رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرقاُ أصابني - لا ينام - فقال:
(( قُلِ: اللَّهُمَّ غارَتِ النُّجُومُ، وَهَدأتِ العُيُونُ، وأنْتَ حَيُّ قَيُّومٌ لا تَأخُذُكَ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، يا حيُّ يا قَيُّومُ أهدئ لَيْلي، وأنِمْ عَيْنِي))
[الطبراني عن زيد بن ثابت]
القلق أو الأرق له دعاء، شسع النعل إذا انقطع ادعُ الله عز وجل، لم تجد الملح اسأله ملح طعامك، غرض ضاع منك اسأله أن يرده إليك، أي: إن الله يحب من العبد أن يسأله حاجته كلها.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "يا ذا الجلال والإكرام برحمتك نستغيث".
هذا من أدعية النبي المأثورة عليه " يا ذا الجلال والإكرام برحمتك نستغيث ".
أنواع المصائب :
أيها الأخوة: لا شك أن المصائب أنواع منوعة، ومن ضيق الأفق، ومن السذاجة أن تظن أنها من نوع واحد، هناك مصائب تصيب الكفار، مصائب قصم، أو مصائب ردع، وهناك مصائب تصيب المؤمنين، هي مصائب دفع إليه، أو رفع عنده، دفع أو رفع، وهناك مصائب تصيب الأنبياء هي مصائب كشف، لذلك تجد في القرآن:
﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾
[سورة الأعراف الآية: 136 ]
أي قصمناهم.
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾
[ سورة يس الآية: 29 ]
ما معنى واحدة؟ " إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً " لأن الإنسان لو أراد أن يقتل حشرة صغيرة على أرض غرفة هذه الحشرة لا تحتاج إلى مطرقة، تحتاج إلى ضربة واحدة لضعفها، فهؤلاء الأقوياء الذين ترونهم في الدنيا أقوياء يحتاجون إلى صيحة واحدة تأخذهم:
﴿ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾
[ سورة يس الآية: 29 ]
فلذلك: المصائب منوعة بين قصم وردع ودفع ورفع وكشف، فالمؤمن قال تعالى:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ * ﴾
[ سورة البقرة]
وأنا لا أشك أبداً أنه ما من واحد منكم وأنا معكم إلا وله في هذا المجال تجارب مع الله عز وجل، فقد تأتي مصيبة ثم يهتدي إلى أن هذه المصيبة جاءت بحكمة بالغة، وبعدل مطلق، وبرحمة واسعة.
من تمام النعم أن يأتي الرخاء بعد الشدة :
لذلك لا تضطرب إن جاءت المصائب، هل تريد أن أقول لك متى تضطرب؟ ينبغي أن تضطرب أشد الاضطراب إذا كنت لا سمح الله في معصية والأمور تأتي كما تشتهي، إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره، معنى ذلك أن المصائب التي تساق للمؤمنين لا تجدي معك، لا بد من قصم بعد حين، فهؤلاء الذين يعصون الله ويستكبرون خطهم البياني صاعد صعوداً حاداً ثم السقوط بشكل مريع، ثم إن الإنسان له مع الله أيام، وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
[ سورة إبراهيم الآية: 5 ]
قد يواجه عدواً فالله عز وجل بفضل الدعاء صرفه عنه، وقد يواجه مشكلة فالله عز وجل بفضل الدعاء صرفها عنه، من تمام النعم أن يأتي الرخاء بعد الشدة، الذين يحبهم الله عز وجل يؤدبهم ثم يكرمهم، الإنسان يؤدب لكن لا تستقر حياته إلا على الإكرام، يؤدبهم ثم يحبهم، بينما أهل الدنيا يرفعهم ثم يقصمهم، فإذا كنت في طور الابتلاء وطور التأديب فهذه نعمة كبرى، والدليل على ذلك:
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى *﴾
[سورة الضحى]
كان غنياً بعد أن كان فقيراً، وكان مهتدياً بعد أن كان في حيرة، وكان يتيماً ثم آواه الله إلى رحمته.
الحكمة من كون النبي الكريم يتيماً :
قد يسأل سائل لماذا كان النبي يتيماً؟ لأنه لو كان له أب كبير، مربٍّ كبير، تعزى كل فضائل النبي لأبيه، أراد الله عز وجل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام في علمه منه مباشرة، وفي فضله من الله مباشرة، ما من أحد له على النبي الكريم يد، بمعنى أنه هو الذي صنعه، أحياناً تجد ابناً من أرقى الأبناء، له أب كبير، يقولون: هذا صنيعة أبيه، هذه الأخلاق من توجيه والده، هذا الانضباط من توجيه أمه، لا أم ولا أب، فعلمه من الله مباشرة، وخلقه أيضاً وإنجازه من الله مباشرة، ولم يكن له ذرية من الذكور، هذا ابن النبي! فإن لم يكن على المستوى انتقلت البغضاء إلى النبي، وهذه مشكلة كبيرة.
(( يَا سَلْمَانُ لاَ تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ: كَيْفَ أُبْغِضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللّهُ؟ قَالَ: تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي))
[ الترمذي عن سلمان]
تنتقل العداوة، فالحكمة بالغة لم يكن للنبي ذرية ذكور إطلاقاً، لأن هذا يتمتع بميزة ما بعدها ميزة، ابن رسول الله، وقد لا يكون في المستوى المطلوب، فيسبب للمسلمين متاعب كثيرة جداً.
هذه حكمة أنه كان يتيم الأم والأب، ولم يكن من ذريته ذكور، ولم يتعلم علوم الأرض، فعلمه من الله، وإنجازه من الله، وذريته لصالح الدعوة.
القرآن الكريم يرفع الإنسان إلى أعلى مستوى :
ثم يقول الله عز وجل :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ *﴾
[ سورة الشرح ]
وختام هذا الدرس أن لكل مؤمن من هذه الآية نصيب بحسب طاعته لله، وإخلاصه له، حينما تطيع الله عز وجل يرفع الله لك ذكرك.
مرة كنت عند قصاب، قال لي: صديقي كان أحد كبار القراء في الشام، كنا في حفل صلى بنا إماماً واقفاً وعمره يزيد عن مئة و أربع سنوات، ورد في الأثر أنه: " من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت"، قال لي: هذا القصاب كان رفيقي، قلت له: أين الثرى من الثريا؟ الله رفع هذا الذي حفظ كتاب الله إلى أعلى مستوى، فالقرآن يرفع الإنسان.
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ * ﴾
والحمد لله رب العالمين